خلال فترة زيارتي لدمشق ضمن هذه الأشهر مفارقات عديدة حدثت وتحدث معي منها ما هو مبكي ومنها ما هو مضحك ومنها ما يحمل اللون الرمادي في مزيج ما بين الضحك والبكاء..
أترككم مع أولى النصوص بعنوان (وعلى سيرة الحمار..):
استيقظتُ صباح اليوم على أشعة شمس دافئة وجو معتدل يبشّر بنهار رمضاني بديع، قلتُ في نفسي: “This is the First Day of the rest of your life“.. التقيتُ بصديقي الذي يرافقني في زيارتي لدمشق، نزلنا إلى الشارع، أشرتُ إلى سيارة الأجرة وسرعان ما توقفت بجانبنا، وكلّ شيء بدا على أفضل ما يرام إلى حدِّ هذه النقطة.
بعد دقائق من انطلاق سيارة الأجرة بدأ السائق – الذي أصبح فجأة صاحبنا بطريقة ما – بالحديث بدءاً بالوضع الاقتصادي العام والسياسي وأوضاع المنطقة مروراً بالخبز والمازوت والبنزين – مع التركيز على البنزين – ولم تتوقف عند ذكر سيرته الذاتية وتفصيلها..
هنيهة وبدأ صاحبنا السائق يسرد قصة حياته بتراجيديا فاقت بؤساء (فيكتور هوغو) التي بدأت بطلاق أبيه لأمه وتشرده ثم زواجه وإنجابه لسبعة أطفال، وهو في هذه القصة لم يكن يعاني من أية مشكلة في ربط مواضيعه مع بعضها والقفز من عنوان إلى آخر ومن قصة إلى أخرى، ولأطرح مثالاً على طريقة الربط هذه فقد مرّت سيارة مسرعة من أمام سائقنا فصرخ قائلاً: (يا حماااااااار..) مذيّلة بدزينة من أقبح الشتائم في جوٍّ رمضاني جميل في حين كان صديقي ينظر ببلاهة شديدة إلى وجهي متسائلاً:
- “هل نحن في شهر رمضان!!؟”..
- لا.. نحن في شهر سبتمبر يا صديقي.. ما زال هناك سنة كاملة حتى حلول شهر رمضان!! في نبرة ساخرة مني..
بعد قليل يعود سائقنا إلى عقله الإفتراضي أو إلى وعيه المفترض بعد فاصل الشتائم التي كالها لصاحب السيارة الأخرى فيقول: “وعلى سيرة الحمار هل سمعتم بأن تكاليف المعيشة هذه الأيام أضحت باهظة جداً.. وارتفع سعر البنزين بشكل مضطرد!!!”.
لا أدري كيف استطاع أن يربط بين الحمار وبين غلاء سعر البنزين وما شأن كل منهما بالآخر؟!! ولله في خلقه شؤون..
على الرغم من أن جهاز الموبايل الذي كان يحمله يفوق سعره السبعمئة دولار في حين هاتفي النقال وهاتف صديقي معاً لا يتجاوز المئة دولار، والحق يقال هو مجاني من شركة (تلسترا) الأسترالية، وأراهن بأن سائقنا لا يستعمل ربع خصائص ذلك الجهاز..
كنت أتساءل كيف يستطيع أن يوفر لنفسه جهازاً باهظ الثمن ثم يسرد مأساته بهذه الطريقة على مسامعنا.. ربما لأن مظهرينا – أنا وصديقي – كسائحين أو كمغتربين أوحى له بأن يطلّق أمه من أبيه وينجب سبعة أطفال وهو في بدايات العقد الثالث من العمر بطريقة ما.. ويجعل من نفسه مشرّداً لخمسة عشر سنة وأكثر ليبرّر في النهاية طلبه بضعفي المبلغ الظاهر على عدّاد سيارته..
وكأنه خلال الثلاثين دقيقة الماضية كان يسرد (مقدّمة ابن خلدون) و(البؤساء) بطريقة (ملحمة جلجامش) في دمج غريب بين الملهاة والمأساة حتى يصل إلى نتيجته المنطقية التي مهّد لها منذ بداية (قصة الحضارة) التي سردها لنا بطريقته بعيداً عن أوروبا وديورانت إلى عدّاد سيارته الذي اُتّهمه صاحبه بأنه “لا يعطي القراءة الصحيحة” أو “لا يعمل..”!!